و فوضى السنونُ تشكي حيرةَ الطُرُقِ التي سُدَّتْ، و التي ما كانت إلا بنَسْجِ خُطاكَ (يا أبي)
تمتدُّ و تتواصلُ في تآخِ الحجارة الصمَّاء، و رصْفِ الكلامِ الذي لم يُقَلْ..
وشوقُ الهواءِ يهبُّ حِيناً إلى الديارِ يلثُمُ ما طابَ من خدودِ الأحبةِ..و يعانِقُ بنارِ الغيابِ سنينَ اغترابٍ لم تزل تتوالَدُ في النبضِ؛ أرملةَ غُربةٍ (يا أبي)... و العينُ كما الوطن؛ يؤرِّقُها الحنين!
خمسه اعوام
و القلبُ موصولٌ بمشيمةِ الأرضِ
و الذاكرةُ في الوراءِ الفَتِيِّ تمرَحُ كأنها (أنا).. الطفلةُ الشَّهباء! بينَ التكايا و الزوايا و الكتُبِ و الأقارِبِ، تُشاكِسُ على أوتارِ اللهفةِ في الزقاقاتِ العتيقةِ، و خلفَ الصبايا تريدُ أن تبوحَ إليكَ (أيا أبي)، و يَقْتُلُها البُعدُ غُصَّةً، فتصمُتْ!
خمسه اعوام ..
تَرحالاً من بقاعٍ إلى بقاع، و العمرُ يَلهَثُ خلف ضباب الأحلام
تُفضي إليكَ غيومُ الشتاءِ بكُلِّ الحمولةِ، و تُرخي عند أعتابكَ حُمَّى الدموعِ الهَطولِ كأنما ما كان في الرحيلِ إلا وَقْع خُطاكَ العائدةِ ذاتَ ربيعٍ – حيثُ غادرتَ بضع شهورٍ، و تناسَلَتْ أيامها سنيناً شيَّبَتْ صبر الليالي، و أمدَّتْ نُجيماتها و البدرَ بعضَ شَيْبٍ و ما انتهى صِباها – ألا ترى خفْقَ الكتمانِ يتضاربُ في صدى عُمرها (يا أبي)؟!
و هُناكَ الوطنْ
على مَرمى الحُبِّ.. يبتسمُ كلوحةٍ نسيها فنانٌ لتشكيلِ نظرتها الأخيرة..
و هناك الوطن، و تكفُرُ كلُّ المنافي بنا.. و ما نحن الا ضحايا انتظار
خمسه اعوام
اشتعلَ العُمرُ (يا أبي)..
و تمردت علينا الجهاتْ
و اشتدَّ الغرباءُ، فاغتصبوا حقوقَ الوطنِ
يكبُرُ في صحراءِ الدنيا، يدنو من أرضه.. يتعرَّفُ للوطنِ، و الوطنُ يدعوهُ بمغتَرِبٍ و المنفى يدعوهُ بوافِدْ؟!
و لا يملكُ إلا الصمتَ..
الصمتُ يقتلُ على مهلٍ.. و يمتدُّ القتلُ إلى ما بعدَ الجيلِ القادم..
اشتعلَ العُمرُ..
و هناكَ الوطنُ يتأجَّجُ في البيتِ المتروكِ منذ الصبا.. ،
و امتلئ النهارُ بالخيباتِ و تلاشَتْ أوردةُ الضحكِ حتى جفَّتْ و هَدَّها الحنين.
ها هُنا شِعرٌ ينثُرُ على مقابرِ الذين مضوا مضاءين بزلازلِ الانتظارِ بعضَ شوقٍ.
ها إنه الوطنْ
إيهِ (أبي)..
و ما زلنا نبتعِدْ
(آ أبي).. و على بُعدِ وطنٍ لقاءْ
و في كلِّ خطوةٍ سأستعيدُ تاريخكَ المتشقِّقِ من عمركَ العظيم..
سأستعيدُ تفاصيلَ جدَّتي، سأكونها
سأستعيدُ قصصَ جدّي، سأرويها
سأستعيدُ شِعرَ عمِّي، سأنثُرُهُ
سأستعيدُ أمثالِ عمَّاتي، سأضربها
سأستعيدُ لونَ عينيْكَ، سأعشقُهُ
و سأستعيدُ طعمَ وطني، سأدمِنُهُ..
ها هو الوطنْ! على بُعدِ حبيبٍ.. من خلفِ غيمٍ مُجْهَدٍ، مُضنىً، بِظِلِّكَ يختصرُ كل المنافي في إطارِ اشتياقٍ أزليٍّ إليك.. !
..